في كتابه «كرة القدم بين الشمس والظل» يحاول الأديب الأورجوياني إداوردو جاليانو أن يبحث في أسباب توتر العلاقة بين معشر الأدباء وكرة القدم، بل يستنكر كيف لا يروق المثقفين عالم مثقل بالتجارب والتقاطع مع جميع مناحي الحياة كعالم كرة القدم.
على النقيض يرى الكاتب المكسيكي خوان فيلورو، أن كرة القدم تقع ضمن عدد محدود من مجالات النشاط البشري التي لا تحتاج إلى تأويل، وتتحدد نتائجها سلفًا؛ مما يجعل من الصعوبة إيجاد حبكات سردية متوازية لها في فن الرواية، كما أنها لا تترك مجالًا لإبداع الكاتب؛ ومن ثَم تلائم فقط الأشكال السردية القصيرة.
ويتفق معه الكاتب البرازيلي سيرجيو رودريغز، الذي يرى أن كرة القدم تحوي بداخلها سرديات الدراما والكوميديا والمأساة، إلا أنها لا تلائم سوى الشعر والقصة القصيرة.
لكن جاليانو يرى أن أشخاص أي رواية يمكن استبدالهم بلاعب كرة قدم ويستقيم المعنى، وأن متن الرواية وهيكلها يتاشبه إلى حدٍ كبير مع مباريات كرة القدم ومجرياتها.
وبين تأرجحنا بين وجهتي النظر السابقتين، ومحاولة بحث أسباب كل منهما، وجدنا الإجابة في الأرجنتين.
يعتقد الأديب الفرنسي جان بول سارتر، أن التأثير التراكمي لحبكة المؤلف هو ما يخلق قصصًا مؤثرة لا تُنسى، والحبكة هي سلسلة الأحداث التي تُشكل القصة، ويرى سارتر أن في كرة القدم كل شيء معقد بسبب وجود فريقين يتنافسان، وهو التعقيد المطلوب لخلق الرواية.
في بوينس آيرس لا يوجد ما هو أكثر تعقيدًا من تلك المنافسة المحتدمة بين بوكا جونيورز وريفربليت، الصراع الذي يتخطى كرة القدم، ويتجذر داخل طبقات الشعب الأرجنتيني ليعكس صراعًا بين هويتين متضادتين، هما طبقة الأثرياء التي يمثلها الريفر، وطبقة الشعب التي تتنفس تراب البوكا.
وهو ما جعل حضور كرة القدم في الأدب الأرجنتيني نمطًا أدبيًّا له فرادته، التي يكتسبها من تغلغل اللعبة في أبعاد تتجاوز الرياضة، ويجعل من ضدين اتفق على عدم التقائهما أدباء ومثقفون حول العالم يمتزجان بشكلٍ غير مسبوق.
فحقيقة أن الكرة جزء متجذر في الهوية الأرجنتينية كان لا بد لها من أن تدخل عالم الأدب بطبيعة الحال. فالأدب مرآة الشعوب التي تعكس التسلسلات والتطورات والمظاهر الثقافية والاجتماعية والسياسية للبلدان؛ وبناءً عليه، فإن أبرز الكتَّاب والأدباء في الأرجنتين تناولوا مسألة الهوس والشغف بالمستديرة، من خلال أعمالهم الأدبية، لينتج من ذلك جنس أدبي خاص فرض نفسه في الساحة الأدبية اللاتينية، يُعرف باسم أدب كرة القدم.
أدب كرة القدم في الإمكان تعريفه بأنه نوع أدبي يجعل من الكرة نافذة على الحياة، اجتماعيًا وثقافيًا، وعلى العلاقات الإنسانية بين شخوصها في المدن وضواحيها والحارات الفقيرة. وعلى الرغم من أن الكرة تمثِّل هذا المدخل الرئيسي لتلك العوالم في هذا الأدب، فإنها ليست العنصر الوحيد الثابت في القصة، ولعل الفضاء المشترك لهذه القصص القصيرة هو المستطيل الأخضر.
فداخل الملاعب تدور أغلبية الأحداث وتبلغ ذروتها. ويشمل هذا الصنف الأدبي أيضًا هتافات المشجعين وأصولها، مراوغًا بالكلمات، تمامًا كما يراوغ اللاعب خصمه بالكرة، ويجعلك تشعر كأنك فعلًا تجلس في أحد المدرجات وتشاهد مباراة ما. فقامات أدبية أرجنتينية بارزة أنتجت أعمالًا لتثري هذا الصنف من الأدب، أمثال أوزفالدو سوريانو وروبرتو فونتاناروسا وإدواردو ساتشيري وخوان ساستوريان.
عام 1971 صدر أهم الكتب المتعلقة بنمط أدب كرة القدم لروبرتو خورخي سانتورو الذي استغرق عدة سنوات لإعداده؛ حيث زار مئات المكتبات وقرأ آلاف المجلات والصحف؛ وجمع أغلبية النصوص الأدبية بالإسبانية ولها علاقة بالكرة، وضم أشهر هتافات المشجعين في الملاعب الأرجنتينية بعد أن بحث عن أصولها وفسرها.
في تسعينيات القرن الماضي بلغت شعبية اللعبة أوجها؛ وتجرأت دور النشر بالأرجنتين على إصدار مجموعات قصصية كروية كاملة مثل: «حكايات السنوات السعيدة» و«حراس وموهومون وهدافون» من تأليف سوريانو، و«كرة قدم نقية» من تأليف فونتاناروسا الذي وصل إلى مستويات مذهلة من الكتابة بهذا المجال.
ويُعد فونتاناروسا، ومواطنه إدواردو ساتشيري، أهم من كتبا في هذا النمط الأدبي في السنوات الأخيرة، وساتشيري الذي فاز فيلم روايته «سؤال العيون» بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي، صدرت له بين عامي 2000 و2007 ست مجموعات قصصية تنتمي لنمط أدب كرة القدم.
يتحدث الكاتب روبيرتو فونتاناروسا بشأن تعلق هذا الشعب بالمستديرة وشغفه بها، كأنهما أمر طبيعي يولد مع جينات الأرجنتينيين ولا حاجه أصلًا إلى تعلمه، فوثق ذلك في رواية بعنوان مذكرات جناح أيمن، حيث يتناول فونتاناروسا الحياة في الأرجنتين من وجهة نظر جناح أيمن، ويصل في نهاية الأمر إلى أن يصف كرة القدم بأنها الحقيقة الوحيدة الثابتة في الحياة.
كرة القدم هي كرة القدم يا صديقي. كرة القدم هي الحقيقة الوحيدة، وكفى هراءً.
في ظل الديكتاتوريات السياسية التي استغلت كرة القدم في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، وفرضت رقابة صارمة على الكتابة بشكل عام، مثَّل أدب كرة القدم حلقة من حلقات النضال السياسي، ومحاولة ضمن جهود أوسع لاستعادة السردية الوطنية من سيطرة الجنرالات.
أدى هذا الاستغلال لكرة القدم من قبل الساسة إلى لفظها بين معشر الأدباء والمثقفين في العالم أجمع، لكن ما حدث بين أدباء الأرجنتين والكرة كان مختلفًا؛ إذ اكتسبت اللعبة أبعادًا وطنية، بل تهافت الأدباء على كتابتها في كل أشكال الأدب، سواء كان الروائي أو القصة القصيرة وخلافه، واعتبروها سلاحًا بإمكانه حشد العامة، سواء ضد النظام أو لتبني القضايا القومية.
فمثلًا بسبب الصراع على جزر الفوكلاند تناول الروائي الأرجنتيني الشهير أوزفالدو سوريانو في قصته القصيرة: «نعم لمارادونا … لا لغالتييري» قضية استيلاء إنجلترا على الجزر، وذلك من خلال وصف أدبي لهدف ماردونا الشهير ضد إنجلترا في نصف نهائي كأس العالم 1986، فيقول:
اصطفت في شوارع بوينوس آيرس مئات السيارات وهي ترفع رايات تطالب بإعادة جزر مالفيناس التي خسرها الجنرال غالتييري بالكامل عام 1982. ومن أعلى الشاحنات المليئة بفتية أحياء المدينة، تردد الهتاف باسم مارادونا.
تتحدث الدكتورة هاجر مدقن، أستاذة الأدب بجامعة قاصدي مرباح في الجزائر، في ورقة بحثية بعنوان أدبيات كرة القدم في الهامش، أن الثورات الاجتماعية المتتابعة مكنت للهامش ألا يصبح هامشًا بعد اليوم، فقفز إلى الواجهة الأدبية عدة مجالات يعيشها الناس ولا يكتبون عنها، كثقافة الطعام والملابس والأزياء، وعلى رأس كل ذلك كرة القدم.
تخبرنا كذلك أن الفضل للأرجنتين وحدها، وأن إخضاع ثقافة الجموع والأدب لسلطانها يعزى الفضل فيه لأدباء الأرجنتين، فبعد عودة كرة القدم كموضوع أدبي في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، شهد مطلع الألفية حضورًا متزايدًا لكرة القدم في الأدب الأرجنتيني، نتج عن قوة متصاعدة لسردية واضحة المعالم لكرة القدم. وقد تجلى هذا الحضور في العدد الكبير من الأعمال التي تتطرق إلى كرة القدم من زوايا متعددة ولأغراض متنوعة. ولم يكن هذا الحضور بمعزل عن الانتشار الإعلامي والتسويقي الواسع الذي حظيت به اللعبة.
لعل أبرز هذه الأعمال هو كتاب «أنا دييجو الشعب» للأسطورة الأرجنتينية الراحل دييجو أرماندو مارادونا، الصادر عام 2000، والذي يتناول فيه ماردونا سيرته الذاتية، وهو الكتاب الذي سيصبح بعد ذلك الأكثر مبيعًا في الأرجنتين لعامين كاملين.
تذكر الدكتورة هاجر مدقن أن ماردونا وكتابه أحدثا طفرة في عالم أدب كرة القدم، وكان مقدمة لعديد من النجوم التي ستكتب سيرتها الذاتية بعد ذلك بمنتهى الشجاعة، والسبب هو أن كتب السيرة الذاتية المرتبطة بكرة القدم هي أكثر ما قد يروق القارئ العادي الذي لا يدخل الأدب عادةً في اهتماماته التقليدية. فمن ذا الذي قد يحب كرة القدم ثم يرفض فرصة للتعرف إلى أسرار لاعبه المفضل أو على الأقل استكشاف كواليس غرف الملابس ومعرفة نوادر منها تخرج للمرة الأولى إلى النور؟
ورقميًا يمكن مشاهدة التطور الذي طرأ على انتشار الكتابات الأدبية المرتبطة بكرة القدم في الأرجنتين، فوفقًا لإحصائية نشرتها وكالتها المحلية للترقيم الدولي عام 2007، فإن عدد كتب أدب كرة القدم، التي نشرت في البلد اللاتيني عام 1996م كان 21 كتابًا فقط، لكنه قفز عام 2006 إلى 59 كتابًا.
نهايةً، لا تزال دراسة العلاقة بين كرة القدم والأدب في بواكيرها سواء في الأرجنتين، أو في المؤسسات الأكاديمية الغربية والعربية، ولكن ثراء وتنوع النصوص التي قدمها أدباء الأرجنتين يشي بآفاق رحبة لهذا المجال.
ومع كل هذه الجهود، فإن حضور كرة القدم في الأدب عامةً لم يلقَ الاهتمام اللائق، على الرغم من أنها أكثر الأشكال الثقافية ممارسة واستهلاكًا ومناقشة في كل أرجاء العالم إذا ما قورنت بما نالته علاقة الأدب بالموسيقى، والفن، والسينما، والرقص من درس واهتمام. لكن أدب كرة القدم سيظل يدين لشعب دييجو وميسي بأنه هو من مهَّد الطريق لدراسة كرة القدم في مختلف التخصصات.